عندما سألني شقيقي ذو الثمانية أعوام أن نتابع مسلسلًا كرتونيًا لم يشاهده من قبل، تساءلتُ إن كنت أبدًا قد فوتّ فرصةً لأصحح له أن ما تابعناه مسبقًا يطلق عليه أنمي لا كرتون. وأن لليابان فضلًا كبيرًا على ذاكرة طفولتنا ثم أسترسل بالحديث لأعدد أفضل الأعمال التي شاهدها جيلي وجيل آبائي في الطفولة ولم يعرفوا أنها من صنف الأنمي حتى تسمعنا أمي - حفظها الله ورعاها - من باب إياكِ أعني واسمعي يا جارة.
معايير اختياري لما قد يشاهده أخي الصغير تستند لسؤال بسيط جدًا "ماذا أود أن أشاهد الآن؟" أو إذا كنت سأنشغل بالجوال "ماذا أريد أن أسمع في الخلفية؟". المهم، استنادًا لهذه المعايير خالصة الديموقراطية والإيثار، قررت بعد الشور والاستخارة تشغيل سالي، لماذا؟ لأني أردت تأمل رسم لندن على الشاشة.
يبدأ المقطع بالشارة المعروفة المتبكبكة على سالي. في الحلقة الأولى تكسر سالي أقدام أبيها، أجل لا أمزح. ينخرط الأب وابنته في البحث عن الدمية المثالية التي أسمتها سالي إيميلي. بعد بحث وتجوال طويلين لم يسفرا إلا عن تعنت سالي، يصرح الأب أن هذا القدر من البحث كافٍ ويجدر بهما العودة للفندق، خاصةً وأنه يتوجب عليه السفر لمباشرة أعماله في الهند. تطلب سالي أن يكملوا رحلة التقصي قليلًا، فيذعن الأب. بعد برهة، يجد دمية تماثل مواصفات الدمية التي أرادتها سالي فيشير عليها راغبًا الخلاص.
"لا يا أبتِ! هذه ليست إيميلي. إيميلي تفتح فمها قليلًا كأنها على وشك قول شيء" تقول سالي.ربما كانت سالي - برأسها اليابس - تحاول استبقاء أبيها لأطول فترة ممكنة قبل أن يعود للهند ويتركها.
تتوالى الأيام وتتتابع معاها الأحداث، بينما كنا نشاهد فكرت أن أتابع الحلقات مترجمةً وأسمع أصوات الأبطال الأصلية في العمل. أول ما استمعت للمقدمة اليابانية ضيّقت عينيّ، هل هذه سالي التي نعرفها؟
ما أبقته ذاكرتي عن سالي أنها انقلبت من عز إلى ذل بعد موت أبيها وإعلان إفلاسه. وكل ما جرى بعد ذلك أحداث مأساوية نرى فيه سالي منكسرة وبائسة. لا أتذكر غير الأحداث الرئيسة المفصلية في العمل، لكني أزعم أن الصورة المحفورة في ذهني عن شخصية سالي مبنية بنسبة كبيرة على ما تقوله أغنية البداية واللقطات المختارة.
أنا قصة إنسان
أنا جرح الزمان
أنا سالي سالي
أعيش في حنين
لوقع المطر.. لضوء القمر.. ورسم المصير
سالي سالي سالي
سالي سالي سالي
يا نور الأمل الطالع
بدل أحزان العمر
كي نلمح نور الفجر كي نحلم مثل الزهر
لنغني نغني نغني
سالي تعيش في حزن بانتظار تبدل أحوالها من الشقاء للسعادة، تنتظر أن يأتي يوم يكون فيه خلاصها من براثن الآنسة منشن اللئيمة ولاڤينيا البغيضة، ومن يلومها؟
لكن ما نراه من سالي لا يتسق وهذا الوصف الانهزامي. حتى عندما تُصعق سالي بخبر وفاة والدها في يوم ميلادها وتفصل من المعهد، لا تستسلم لهذه الأهوال.
في كل مرة تحاول فيها لاڤينيا مضايقة سالي بعد أن أصبحت خادمة في المعهد، لا تنفعل الأخيرة أو تبكي، بل تنجح كل مرة تقريبًا في تحييد تعابير وجهها وتصوّب لاڤينيا بنظرات خالية من أي شعور فتزداد الأخيرة غيظًا وتصميمًا على إيجاد فرصة لإيذائها من جديد.
في النسخة الأصلية كلمات أغنية البداية بترجمة أنس زايري تكون كالآتي:
إنها تزهر في ركنٍ من قلبي
زهرة صغيرة بدون اسم
كلما حزنتُ، نبتةٌ وحيدةٌ حمراء
تُصحح لي زاوية نظري
ثم تبدأ دموعي بالاختفاء
عندما أظن أنني سأبكي
رغم أنني يمكنني دائمًا أن أرفع صوتي وأنتحب
إلا أنني أملك هذه الزهرة داخل قلبي
لذلك أحاول أن أكون قوية
يبدو لي هذا متسقًا أكثر وشخصية سالي التي تعمل بجد في النهار وحتى وقت متأخر من الليل وعندما تعود لغرفتها التي تقطنها عائلة فئران، لا تندب حظها وتبكي، بل تكمل الدراسة سرًا. هي لا تنتظر شيئًا ليغير حالها ويبدل بؤسها، بل تتطلع دائمًا لهذه الزهرة في قلبها وتحاول أن تكون قوية.
في السوق، تمشي بثوبها الذي اختارته المديرة منشن بعناية فائقة عندما أوصت أختها أن تفتش بين متعلقات التلميذات السابقات وتنتقي لها الثياب والأحذية الأكثر اهتراءً. بينما هي في الطريق، تُسرق منها النقود التي تلزمها لشراء حاجيات المطبخ. يظهر الفتى بيتر وينقذها من المأزق ببراعته في التفاوض مع الخضارين وأصحاب المحال الذين يعرفهم سلفًا.
تقول له سالي " بيتر علمني، فأنت تعرف عن الحياة أكثر مني، أريد أن أصبح أقوى. لا، بل يجب أن أصبح أقوى"!
لا أشعر أن سالي كانت تنظر لوضعها بأسى رغم مأساوية الوضع إلا أنها بطريقة ما تنجح برسم ابتسامة تفاؤل ورضا في كل يوم جديد.
لماذا هذا التدقيق فيما إذا كانت سالي فتاة تتفاعل مع الظروف بمرونة أم رازحة تحت البؤس؟ هي عاشت حياة بائسة بالفعل قبل أن ينقذها الرجل الغني.
هذا ما دار في خلدي عندما رأيتني أقف عند كلمات الأغنيتين. لكن توقفي كان عند طريقة تذكري للشخصية ذاتها أكثر من سلسلة الأحداث التراجيدية. أليس مجحفًا في حق سالي أن نتصورها تنتظر لواح الفجر كي يتسنى لها أن تحلم مثل الزهر؟ أنها انهزامية أو بائسة؟ بينما تحاول جاهدةً أن تتعلم وترى الحسن في كل الظروف.
أعرف مسلسلًا آخر لا تكون فيه البطلة وحدها من تتعرض لظروف قاهرة بل نستطيع أن نرى معاناة كل شخصية على حدة وكيف تسحقهم الحياة فلا يستطيعون في مجمل الأحوال إلا أن يمرروا تعبهم وحنقهم للآخرين لتشملهم المعاناة.
ما أردده عن "حكايات آن" أو "آن قبل المرتفعات الخضراء" أنه أبأس أنمي شاهدته في حياتي، حرفيًا. حتى مع ظرافة آن ولطف بعض الشخصيات إلا أنني أتساءل أحيانًا كيف استطعت متابعته في طفولتي؟
مع هذا، تصدح أغنية البداية في رأسي أكثر من أي شيء آخر مشيرةً للأمل المتوقد في قلب آن:
بذرة النور تجري في الحقول
الريح تجفّفُ الدموع
وتداعب السهول
الطائر الأزرق يحلّق في السماء
تتبعهُ السعادة يتبعهُ الهناء
وحين يهطل المطر
تذكّر أن لك شمسًا
تعطّر تشرقُ تتوهج
كي يدعو كل شيءٍ إلى السرور
فلنا جميعًا بذرةُ النور
في كل مكان..في كل زمان
ابحث عن السعادة والأمان
لمَ يبكي الأطفال..عندما يولدون؟
لا شيء غير السعادة يجنون
ومستقبلٌ مشرقٌ ينتظرون
يطلق الناس الأسماء على القطط والأحصنة والحيوانات الأليفة، هذا ما تفعله آن، لكن ربّاه! من ذا يقف عند خزانة متهالكة ليختار لها اسمًا؟ أو ينتظر جيني لتجفف الملاءات المبللة، ويحمل لويزا الدلوة برقة ليملأها بماء النهر.
حين رأيت سالي تشجع صديقتيها آرمنغارد ولوتي أن تتخيلا حجرة العلية التي تسكنها على أنها ساحة قصر، تذكرت آن وشطحات خيالها الغريبة. لم أتذكر سالي يومًا بهذه الصورة المتفائلة المحبة للحياة حتى بعد أن بدلت وجهها الناعم.
رغم البون الشاسع بين المسلسلين وميلي الكلي لحكايات آن الذي لا يتبنى ثنائيات الخير والشر في خلق شخصياته كما نشاهد بوضوح صارخ في سالي إلا أنني أحب أن أنزل الناس منازلهم؛ إذا كانت سالي حبوبة ومتفائلة وتتمتع بعقلية غريبة تسمح لها بمصادقة الفئران في الحجرة، فينبغي أن أتذكرها بهذا الشكل.
بعد تمعن وتأملٍ طالا ليستغرقا ثواني معدودة، لا أرى أخي على باطل، فالذي أعجبه هو وأخي الأصغر مثل من ألف ليلة وليلة ومغامرات فريد يندرجان تحت تصنيف الكرتون فلا غرو أن يسمي سالي كرتونًا.
بعد زهاء عشرين حلقة من سالي تخللتها إعادة حلقات متفرقة من إلى أبي وأمي مع التحية، قال أخي "شريفة خلينا نتابع أنمي ثاني". لا يسعني إخفاء سعادتي أو الدمع الذي طفر من عيني عندما بدأ أخي يستعمل لفظة أنمي. فكرت بإخلاص وإيثار بالغين بما قد يفيد أخوين في سن الثامنة والخامسة واخترت "أنا وأخي". سلك لي أمير قليلًا وحاول متابعته. لم يظهر أنه متشوق لمشاهدة مناوشات أخ أكبر وأصغر على الشاشة بجانب عيشها في الواقع، لذا ترك الشاشة بعد برهة وتبعته لنرافق أمي حيث تكمل أعمالها.
ماذا عن مشاركة المقال مع شخص تحبه؟☃️
مقالة دافِئة خلَّابة، أحببت منظورك تمامًا والأفكار المُشتركة في طفولتنا لسببٍ رئيسي مثل كلمات البداية
على الرغمِ من أنِّي لم أُكمل عمل سالي إلّا انَّ الصورة عنها كانت كما وصفتِها من كلمات البداية الذي يجري
بألحانِه الحزينة مع غيابِ شخصية سالي الحقيقية من مواقفِها بعض الأحيان التي نادرًا ما نتذكرها في الوقتِ نفسِه
حتى صُعِقت بكلمات الترجمة، أذهلتني جدًّا معرفتها وأشكر أناملكِ على نقلِ حقيقتِها لنا، بالإضافةِ إلى معنى دفءِ
المقال الذي عنيته وهو مواقفكِ مع اخيكِ الأصغر🌟🤍🤍
كالعادة كتاباتك دائما تبهرني ومنظورك للأشياء وبرضو تدقيقك بالتفاصيل ما شاء الله.
أنا للأسف أظني ما تابعت سالي بطفولتي أو تابعته ونسيت لكن من خلال مقالتك عرفت فكرته العامة وحجم الفرق بين أغنية البداية بالعربي والنسخة الأصلية منه. وفعلا النسخة الأصلية هي التي تتناسب أكثر معه.
حتى آن أذكر اني شفته قبل كورونا وبكيت على أحداثه كثير بس كان يبهرني تعاملها مع المواقف والله
وفرحتك لما أخوك نادها أنمي بدل كرتون هذا انجاز عظيم لوحده☃️