أعترف أن قراءتي للرواية كانت مدفوعةً بالغيرة، أجل الغيرة. لكن دعونا نرجئ هذا للنهاية ولنشرع بالمراجعة الآن.
كنست السماء عن وجهها كل غمامة سوداء، لكن سحابة خرقاء ضلت الطريق وطفقت تظلل قلب شوشو المسكين. ففي قلبها الذي لا تختلط فيه الدماء المؤكسجة بغير المؤكسجة - أواه من ذا قلبه الذي يفعل؟ - تسكن ذكرى لصبي فقير كانت قد رأته يتسلق جسر المدينة ويقدم على الانتحار، لكنها تحاول تناسيه. وإذ يغذي القلب أعضاء الجسم بالدم فكذا كانت تفعل أم سماح، جارتهم إذ تملأ الدار فرحةً وبهجة، لكنها ربما نسيت أن القلب يغذي نفسه أيضًا بالدم عندما يسلك طرقًا متفرعة من الأبهر إلى الشرايين التاجية. وعلى طاري التاج فإن حاكم المدينة التي عاشوا فيها كان عادلًا رحيمًا. وعمي عادل، الذي سكن الدمام عوضًا عن مدينته جراء عمله، ما فتئ يذكر لنا زوجته بالخير. فهو يعلم أن الرجولة الحقيقية ليست في تحقير زوجته أو إهانتها وإنما في إكرامها ¹.
ترصد الرواية حكاية جيلين كاملين من اليمن تتوزع إقامتهما بين السعودية والوطن. أجد الشكل السردي منذ بداية الرواية وحتى الفصل الثالث ( أي فقط الصفحات الأربعين الأخيرة ) قد اتخذ شيئًا شبيهًا بالنص الذي كتبته أعلاه محاكاةً للنص الأصلي ألخص فيه كل الجوانب التي سأتطرق لها في النص.
أرى أن للكاتبة الكثير من القصص الجاذبة التي يمكن طرحها، لكن هناك هذا الزج المكثف للشخصيات والأحداث لدرجة أني فجعت عند أول عشرين صفحة. أشعر أني أركض ومع ذاك الركض لا ينبغي لي أن أفوّت أي تفصيل فكلما خطوت خطوة اعترضتني شخصية أو حكايتها مع شخصيات جديدة. ونظرت لحالي مع محاولة اللحاق بالتدفق السريع للقصة وتلافي أن تسقط من ذاكرتي الأسماء والأحداث فوجدته متسقًا وعنوان الفصل الأول "أيام القلق وليالي الأرق".
يتخذ السرد طريقة الراوي العليم، وأجد هذا الراوي العليم أمينًا لدرجة فظيعة وشائنة تهلك القارئ فهو لا يترك حدثًا إلا وقاله مهما كانت أهميته وشأنه وعظمه، من باب الأمانة كما يبدو. لكن السارد رغم أمانته، لا يحاول جذب القارئ بغير خبر الحدث ذاته، لا تتغير سرعة سرد المشهد أو مشاعره بناءً على ما يتطلبه الحدث بل تستمر على رتم واحد دائمًا. ولا تجد مبررًا في أحيان كثيرة لبعض الأحداث، لم ذكرت؟ وما غايتها الآن؟
كثيرًا ما استوقفتني أحداث شعرت بوجوب أن تأخذ حقها في السرد ولم يكن لها أن تمر مرورًا عارضًا كهبة النسيم.
مثلًا لا تشعر بشيء مع حدث جلل وفاجع وغريب مثل موت طالبة على يد أستاذ التشريح، وت؟
يذكر بشكل عارض أن سبب اختفاء ابنة الطيب أحمد وقوعها ضحية أستاذ التشريح في الجامعة. من هو هذا الأستاذ المجنون الذي يقدم على قتل طالبة؟ ولمَ؟ أو هل ذكر كلمة "تشريح" كافٍ لتجعل منه إنسانًا غير سوي؟ يعني أنا أتفق أن هناك سرًا لدى أساتذة التشريح في اختيارهم هذا التخصص الغريب والممل إلى حد كبير، لكني لا أجردهم من السواء.
نقرأ كذلك عن إحدى الشخصيات "والد الشقية" الذي قبل أن تطأ قدمه عش الزوجية يواجه ابن عم الزوجة المتحرق لقتله، فيطلق عليه والد الشقية رصاصات متتالية ترديه صريعًا. حسنٌ، لدينا هاهنا شاب في ليلة عرسه يقتل رجلًا هو قريب العروسة. مصيبة! لكني مع ذلك لا أقرأ شيئًا يوترني خلال سرد الأحداث ويشعرني مع والد الشقية بحجم الفادحة التي ارتكبها وتورط بها الآن، حتى في لحظات هربه ولجوئه للأغراب. وليس ذكري له بـ"والد الشقية" حتى قبل أن تكون له ذرية نابع من جهلي باسمه - وأنا ما عرفت وش اسمه من جد - ولكني أذكره كما تذكره الكاتبة عند سردها للحدث بالضبط.
في أحد النهارات، تأمر إحدى الأمهات ابنتها نبيلة لتتفقد العجوز مريم، فالشاب الذي اعتاد الاطمئنان عليها قد سافر للعمرة منذ أيام. تطيع نبيلة أمر والدتها وتذهب على مضض، وإذ تلقى العجوز مريم تنازع الموت لا تنادي أمها كما طلبت العجوز بل ترفسها برجلها وتنظر لها بفرحة حتى تقيء روحها. سايكوو!! المبرر الوحيد لهذا الفعل كان أن العجوز مريم اعتادت تمييز الفتيات الأخريات عن نبيلة، فكانت تعطيهم البيسكويت وتحرم نبيلة. يعني ألا تثير رؤية إنسان ينازع الرعب والفرق في الإنسان؟ مهما كان سلوكه تجاهنا، لم كان هذا تصرف نبيلة إزاء العجوز؟ هل ستقول الرواية شيئًا عن حالة نبيلة العقلية المقلقة؟ لأ.
***
هناك هذا الشغف بمحاولة ربط الأحداث والشخوص ببعضها، أعني بذلك التنقل السريع من قصة لأخرى عبر جملة تحاول ربط حدثين. فمثلًا
"وتبدلت صداقتها بليلى فجأة من حلم جميل إلى كابوس، كما تبدل صباح هذا اليوم في قلب أمها إلى ليل" ²
أو خذ أيضًا
"انطوت صفحة جُعَل والعجوز مريم من حكاية أهل الحارة وأخذ ذكرهما طريقه من سجل التذكر إلى سجل النسيان، ولكن ذكر زوج حليمة بعث مرة أخرى.." ³
لا مشكلة عندي مع هذا الأسلوب في الربط، لكني أجده ثقيلًا عند التكرار ويحرم النص من أي استراحات أو فرص لعبّ الأنفاس.
"وسيلاحظ المتلقي أن الروائية تقصي فكرة البطل التقليدي ذي الحكاية المحورية لتثبت أن لا تمايز جوهريا بين شخصيات الرواية الكثيرة جدا بحكاياتها المتشعبة التي يؤول مصير معظمها إلى الموت والنسيان؛ لأنّ الجميع ضحايا مصيرهم الشقاء، ولتؤكد أن حكاية الموت وحدها هي حكاية اليمنيين المشتركة"
هذا ما يقوله د.أحمد شحوري على غلاف الكتاب. بنظري، هذا تعليق حاذق وسرّني أن أقرأه. لكم أود أن يكون لي مثل د.أحمد شحوري يمسك بتلابيب ما قد يُحسب مأخذًا علي ويجعله مزيّة أردتها أنا، رغم أني لن أقبل بذلك. لم أقرأ ما كتب على الغلاف حتى أنهيت الرواية، ولذا أحمد الله أني لم أكن بقصد أو دون قصد تحت تأثير قراءة قد يُظن أنها الأكثر مشروعية للكتاب أو أنها أفضل ما يعبر عما ورد فيه. ما يحاول قوله هو أن الغرض من كل هذه الحكايا والأحداث اللانهائية المقحمة هو أن مصير هؤلاء البشر للموت والنسيان.
كما أسلفت، للكاتبة الكثير من القصص التي يمكن طرحها وأنا أقدّر الطرح الذي قدمته في الرواية، وجذبني بعضها، لكني لا أنتهي من قصة وحدث حتى أتساءل هل ستعود لتقول شيئًا عنه في النهاية؟ خصوصًا أن بعض الأحداث - بنظري - تحتاج تفسيرًا لغرابتها وأتساءل ما الغرض منها؟
لا تعنيني مسألة البطل التقليدي الأوحد، لا أطلب هذا؛ لأنه ممل شوي. لكن ما أرغب به أن أعرف سببًا للحدث المذكور، أو الأحداث المذكورة.
مع ذلك، أعجبني اختيار بعض الاقتباسات بداية الفصول وكذا أبيات الأهازيج والأغاني الموردة في النص، كان لها أن تزيد النص حميميةً وقربًا من القارئ.
***
ما رأيته أن الرواية تحب الرسائل الوعظية أو المباشرة إلى حدٍ ما. فمثلًا تتحدث عن عباس الذي اختار الوحدة رغم كثرة الناس من حوله "فهو يعرف مسبقًا أن لكل علاقة نهاية" ⁴. مهلًا، ما كان دور عباس؟
أو عن الحريق الذي أكل المنازل والدكاكين، "وكم هو مفجع أن تخسر كل شيء ظننت أنك امتلكته بحماقة واحدة" ⁵ واتضح أن مصدره سيجارة.
وأهل الحارة وهم يطعنون بتربية الطيب أحمد لابنته "وكم أماتت الألسن وأحيت ولم تتب بعد"⁶ ولم يعرفوا أنها قتلت على يد أستاذها الجامعي، مجنون التشريح.
***
أظن أن الفصل الأخير هو الفصل الذي تُكتب الرواية كلها لأجله، وفصل يؤمل أن يجُب ما قبله. لكن الأمور لا تسري بهذه الطريقة. يتحول السرد في الأربعين صفحة الأخيرة من صيغة الراوي العليم إلى المتحدث. وينتقل من السرد الكثيف للأحداث إلى رسائل تكتبها الراوية إلى الشقية عن الأوضاع السياسية في اليمن. وهكذا تنتهي.
***
لم أقرأ الرواية الأولى في سلسلة #يلا_نقرأ المقررة لشهر يوليو. ليس لأني كسولة أو غير وفية للبودكاست، حاشى وكلا وكلا وحاشى. لكن يومي كان مشغولًا بطوله إلى منتصف الشهر وبصدق، الرواية لم تشدني لإكمالها حين فتحتها ناوية إعطاءها فرصة وقررت —وقد صدحت في رأسي كلمات إحدى المقالات المعتبرة عندي — أن وقتي أثمن من أن أضيعه. معليش إجازة والجامعة على الأبواب. لكن حين بدأت الاستماع لحلقة الرواية قبل بضعة أيام، وخزني شيء من الغيرة عند سماع الرسالة التي استقبلها البودكاست عن رواية باهبل. كانت لماحة وظريفة! وددت أن أكون مجددًا مع رفاق كتبيولوجي الذين قرؤوا الرواية وكان لهم نصيب من المشاركة.
أقول وخزني شيء، ليس وكأني كتبت عن هذا الحدث في دفتر مذكراتي بمقاس (130X180) الذي ابتعته من ميني سو قبل عام، إطلاقًا! لا يفعل هذا إلا مشغوف بالبودكاست وأنا أزعم حب الأشياء بالاعتدال الذي يوصي به ديننا الحنيف. إذًا قرأت الرواية، ولكن كتابة مراجعة قرار يحدده الكتاب نفسه لا رغبتي وحدها باللحاق بركب البودكاست أو دفع تهمة السحبة المرفقة بوصف الحلقة. بعد أن ارتاح خاطري قليلًا الآن، أذهب لأكمل الاستماع للحلقة.
1 أنا.
2 الرواية في تطبيق أبجد، ص 56.
3 نفسه، ص 83.
4 نفسه، ص 50.
5 نفسه، ص 159.
6 نفسه، ص 203.